إثبات الحدّ لذات الله تعالى

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - وفي رواية: النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

وهو حديث صحيح، رواه مسلم وابن ماجه.

فهذا حديث صريح في أن لذات الله تعالى حداً، وأن بينه وبين خلقه حجاب من نور أو نار، والحُجُب لا تكون إلّا لمن كان لذاته حد تنتهي إليه.

وروى أحمد والترمذي وغيرهما عن وكيع بن حدس عن أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: "في عماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء". اهـ

والعماء، هو السحاب الأبيض.

والهواء، هو الفراغ، أي: العدم المحض، الذي لا شيئة فيه. 

وقد تطلق العرب على الرياح، اسم الهواء، لتشابهِهَا مع العدم، في بعض خصائصه.

فدل هذا الحديث على أن لله تعالى فوق وتحت.

أي: حد لذاته من فوق، وحد لذاته من تحت.

وهو سبحانه من يُقدِّر فوقه من تحته.

ووكيع بن حدس له روايات أخرى مستقيمة، ولذلك حسن أئمة السنة أحاديثه، وحكموا بصدقه.

والحديث يقبل ويكون حجة، إذا لم يكن له معارض من كتاب الله تعالى أو الأحاديث الأصح منه سندا، وليس لهذا الحديث معارض من الوحيين، وهذا مذهب أئمة السنة والحديث والأثر.

وروى مسلم في صحيحه.

وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟".

فأشار هذا الحديث إلى أن لله تبارك وتعالى حداً من يمين، وحداً من شمال.

ثم هو بعدُ أعلم بحده، وأعلم بأبعاد هذه الذات.

وقال الإمام مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة: "الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء".

أخرجه أبو داوود في مسائله بسند صحيح.

وهذا الأثر الجليل، من رواية عبدالله بن نافع الصائغ، قال عبدالله بن عدي في الكامل: "حدثنا ابن أبي عصمة، حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد، سألت أحمد بن حنبل، عن عبد الله بن نافع المديني الصائغ، قال: لم يكن صاحب حديث، كان ضيّقاً فيه، وكان صاحب رأي مالك، وكان يفتي أهل المدينة برأي مالك، ولم يكن في الحديث بذاك".

وقوله: "كان ضيّقاً فيه" أي: أنه لم يكن محدثا، وإنما كان عالما برأي الإمام مالك.

قال أبو داود في سوءالاته للإمام أحمد: سمعت أحمد قال: "عبد الله بن نافع الصائغ، لم يكن يحسن الحديث، كان صاحب رأى مالك".

أي: أنه خبير برأي مالك، فكل ما ينقله عن مالك صحيح عن مالك.

فيتبين مما سبق، أن جميع روايات الصائغ عن الإمام مالك صحيحة.

وقيل للإمام عبدالله بن المبارك، وكان من كبار أئمة السنة، وكان يلقب أمير المؤمنين في الحديث، لسعة حفظه وعلمه: كيف نعرف الله عز وجل؟ قال: على العرش بحد.

وقيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: في السماء السابعة على عرشه بحد.

رواه الخلال في السنة، وحرب الكرماني، في مسائله.

وروى الخلال في السنة بعد ذكر كلام ابن المبارك: فقال أحمد هكذا على العرش استوى بحد. فقلنا له: ما معنى قول ابن المبارك بحد؟ قال: لا أعرفه، ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع ﴿إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ﴾ ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِی ٱلسَّمَاۤءِ﴾ ﴿تَعۡرُجُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیۡهِ﴾ وهو على العرش وعلمه مع كل مكان.

وقال الاصطخري: قال أبو عبدالله أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه:

"ولله عز وجل عرش وللعرش حملة يحملونه والله عز وجل على العرش وله حد والله أعلم بحده ويتحرك ويتكلم وينظر ويضحك ويفرح" اهـ

رواه ابن أبي يعلى في كتاب: طبقات الحنابلة، بسند لا بأس به.

وسئل الإمام إسحاق بن راهوية: ما تقول في قوله تعالى: ﴿مَا یَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَـٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ﴾ .. الآية؟ فقال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن عن خلقه. فقال السائل: على العرش بحد؟ قال: نعم بحد.

رواه حرب في مسائله.

شبهة والرد عليها:

روى حنبل وإسحاق بن راهوية، عن الإمام أحمد بن حنبل، أنه قال: "نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد" اهـ

كما روي عن بعض أئمة السنة إنكارهم للحد.

والجواب: أثبتنا سابقا إثبات الإمام أحمد للحد وأنه من لوازم إثبات علوه سبحانه مما يدل على أن مرادهم العلو الذاتي وإثبات الإمام أحمد الحد لله عز وجل ليس له معنى إلا أن الإمام يثبت الحد لله عز وجل فكان إثباته للحد هنا هو القول المحكم أما قوله بأن الله ليس له حد فهو يتصرف على معنيين: الأول: إنكار الحد مطلقا والثاني: إنكار أن يكون أحد من خلق الله قادر على أن يدرك هذا الحد ويستوعبه. فأصبح إنكاره للحد هنا هو القول المتشابه فإذا رددنا قوله المتشابه إلى قوله المحكم عرفنا أن مراد الإمام بإنكاره للحد في هذه الرواية إنما مراده منها: إنكار أن يكون أحد من خلق الله قادر على أن يدرك هذا الحد ويستوعبه؛ لأن إثباته الحد لله عز وجل لا يمكن أن نقول بان له معنا أخر غير ظاهره.

وأما كلام أئمة السنة، فإنه يفسر بعضه بعضا، فمرادهم جميعا، أن الله بائن من خلقه بحد يدركه هو من نفسه سبحانه، ولكن خلقه يعجزون عن إدراك حده.

وقد تبيّن من خلال الأدلة الدالة على علوّ الله تعالى على سماواته، وجلوسه على عرشه، واحتجابه بالنار والدار، أن لذات الله تعالى حدّاً وغاية، حدّاً يدركه هو من نفسه، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يدركه، وأنه لا يعلم أبعاد هذه الذات إلا الله سبحانه وتعالى.

وبما أن لذات الله تعالى حدّاً، فهذا يعني، أن لذاته حجماً، ولكمال قدرته سبحانه، يتحكم في حجمه، فلو شاء زاد في حجمه حتى لا يكون شيء أكبر منه، وإن شاء أدنى من حجمه إلى ما شاء، لا حدّ لحجمه عندما يزيد فيه، ولا حدّ لحجمه عندما يدني منه، ولكنه قضى ألا يكون شيء أكبر منه، فهو الكبير، وهو الأكبر.

والله أعلم وأحكم.