ما ورد في أن من قدرة الله تعالى أن يوجد في أماكن عِدّة في وقت واحد

عن ‌عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه، ثم أقبل على الناس فقال: "إذا كان أحدكم يصلي، فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى".

رواه البخاري ومسلم.

قوله: "قِبَل وجهه إذا صلّى". أي: مقابل لوجه المصلِّي، هذا هو معناها في لغة العرب، ليس لها معنى سوى ذلك. 

ويدل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك: "فلا يبصق قبل وجهه". أي: أمامه، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله قبل وجه المصلّي" أي: أمام المصلّي.

وأما من زعم أن معنى ذلك، هو أن الله تعالى، فوق العبد إذا صلّى، فهذا تأويل باطل، ترده لغة العرب، وترده النصوص الشرعيّة.

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد. فأقبل على الناس فقال: "ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا" .. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد ثوبه بعضه على بعض.

رواه مسلم.

وقوله: "أيحب أحدكم أن يستقبل فينتخع في وجهه". تشبيه للفعل بالفعل، ففيه دليل على أن من يبصق قبل القبلة وهو يصلّي، فإنما يبصق على الله تعالى، كما ينتخع الرجل في وجه الرجل وهو مستقبله، وإن لم يصل شيء من بصاقه إلى الله تعالى، لأن الله تعالى بقدرته يمنع أن يصل شيء من اذى الناس الفعلي له سبحانه، وهذا دليل أخر، على أن الله تعالى، ينزل حتى يكون بين المصلّي وبين قبلته بذاته المقدّسة، ويكون مستقبلاً للمصلّي.

وعن ‌أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه، حتى رئي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو، إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه". ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: "أو يفعل هكذا".

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم في الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها".

رواه البخاري.

فقوله: "فإن عن يمينه ملكا". دليل على أن النهي عن بصاق المصلي قبل وجهه، إنما المراد منه، أن الله تعالى أمام المصلي بذاته.

وإنما نهي المصلي عن البصاق عن يمينه، لأن على يمينه ملك يجب أن يُحترم.

وكذلك قوله: " ولكن عن يساره". وقوله: "وليبصق عن يساره". تدل دلالة صريحة على أن الله يكون أمام المصلي وبين المصلي وقبلته بذاته المقدّسة.

وفي ذلك كله، دليل على بطلان من زعم أن معنى قول النبي في الحديث الأول: "فإن الله قِبَل وجهه إذا صلّى". أي: أنه فوقه. لأن العبد إذا التفت يميناً فإن الله سوف يكون قِبَل وجهه، وإذا ألتفت يساراً، سوف يكون الله قِبًل وجهه أيضاً، وعلى هذا، فلا يجوز للمصلّي أن يبصق على يساره أيضاً، كون الله سوف يكون قِبل وجهه أيضاً، فثبت بهذا الحديث، بطلان ذاك التأويل الذي تأولوه.

وعن حذيفة بن اليمان، أظنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه .. " الحديث.

رواه أبو داود.

ومعنى الحديث، أن من تفل تجاه القبلة، فإنما يكون تجاه الله تعالى، فجازاه الله تعالى بأن ردّ عليه تفلته، ووضعها بين عينيه.

ولا يقال بأن النهي عن البصاق تجاه القبلة، تشريفاً للقبلة، التي هي الكعبة، لأن بينه وبينها مسافة بعيدة. 

ولا يقال بأن النهي ورد تشريفاً للجهة، لأنه لو كان كذلك، لنهي عن البصاق تجاه القبلة في الصلاة وفي غير الصلاة.

ولا يقال: بأن النهي ورد لأن العبد يناجي ربّه، دون مقابلة، لأن للعبد أن يبصق في غير الصلاة، وهو يناجي ربه، بدعاء أو قراءة أو نحوه، لأن النهي إنما ورد عن ذلك والعبد يصلّي، وإنما جرت عادة أهل التقى، أنهم لا يبصقون أمامهم وهم يناجون ربهم خارج الصلاة، سواء كانوا يدعون الله تعالى أو يقرأون القرآن، ولكن لم يرد نصّ شرعي بالنهي عن ذلك خارج الصلاة.

فثبت بذلك، أن النهي عن البصاق، ورد لأن العبد عندما يبصق، فإنما يبصق ناحية الله، الذي نزل ليكون بين عبده المصلِّي وبين قِبلته، لتكون صلاة العبد له.

قلت: فهذه أحاديث صحيحة صريحة، في أن الله تعالى يكون بين المُصلّي وقبلته، ليصلّي إليه، سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن الأرض لا تخلو من مصلّي، في كل زمان ومكان، ويصلي الألوف المؤلفة من الناس في زمن واحد، وفي أماكن متباعدة، فيكون الله تبارك وتعالى، أمام كلِّ مُصلٍّ وبين قبلته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني، فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".

رواه البخاري ومسلم.

فهذا حديث صحيح صريح، في أن الله تعالى ينزل بذاته إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخر، ينادي عباده إلى الدعاء والاستغفار. 

ومن المعلوم أن وقت ثلث الليل الأخر، مستمر طول الوقت، لا يرتحل من أرض حتى يحلّ بأخرى.

فإذا كان الله تعالى بين كلِّ مصلٍّ وبين قبلته، وفي نفس الوقت نازل إلى السماء الدنيا عند من عندهم الوقت ثلث الليل الأخر، وهذا يعني استمرار نزوله إلى السماء الدنيا على مدار الوقت، ولكن يختلف الموضع الذي ينزل إليه من السماء الدنيا، بحسب اختلاف الزمن على الأرض، وفي نفس الوقت عال فوق سماوات، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، عند باقي مخلوقاته، ممن لا يصلّي وليس عندهم الوقت ثلث الليل الأخر، فإنه لا يمكن تأويل هذا إلا أن يقال: بأن الله تعالى يتواجد في أماكن عدّة في وقت واحد، بكيفيّة لا يعلمها إلّا هو سبحانه

ولعل هذا ما يفسّر لنا كيف أن الله تعالى في جهة العلو، مع أن هناك من يقول بأن الأرض كرويّة، فالجواب على ذلك: أنه لو صحّ أن الأرض كروية الشكل، فإن جهة العلو تكون جهة نسبيّة، فجهة العلوّ بالنسبة للكرة، هو كل ما كان فوق سطحها من أي جهة كانت، وأما أسفلها فهو في مركز باطنها، فلو انطلق أي شخص من أي ناحية من نواحي الأرض، إلى جهة العلوّ من قِبَله، واخترق السماوات السبع، لوصل إلى الله تعالى، وهو مستو على عرشه في وسط داره، تحفّ به ملائكته المسبحة بقدسه، فإن القادر على أن يجعل ذاته في أماكن عدة في وقت واحد، قادر على أن يجعل عرشه وداره في أماكن عدة وفي وقت واحد، لأن الله تعالى لا يعجزه شيء.

والله أعلم وأحكم.