الخاتمة

من خلال ما سبق، من إثبات الشبه والكيف، بين صفات الله تعالى وصفات خلقه، يتبيّن لنا فساد بعض القواعد التي قعّد له مدّعو العلم والفقه، كقولهم: كل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك. فهذه القاعدة مخالفة لما ورد في الكتاب والسنة، من إثبات الشبه والكيف.

وكقولهم: تثبت صفات الله بلا تأويل ولا تحريف، ولا تشبيه ولا تكييف. وهذه القاعدة، وإن كان النصف الأول منها حق، لأن مرادهم النهي عن التأويل، أي: التأويل الفاسد، لآيات وأحاديث الصفات، المخالف لظاهرها، وكذلك النهي عن تحريف معاني الآيات الواردة في صفات الله تعالى، عن معناها الذي تعرفه العر بمن كلامها، إلّا أن النصف الثاني من هذه القاعدة، باطل ولا شكّ، لمخالفة صريح الكتاب والسنة، في إثبات الشبه والكيف بين صفات الله تعالى وصفات خلقه.

والصواب في هذه القاعدة أن يقال: تثبت صفات الله تعالى بلا تحريف ولا تمثيل. أي: بلا تحريف لمعناها الذي تعرفه العرب من ظاهر كلامها، ولا تمثيل لصفات الله بصفات خلقه في كمالها وجلالها وجمالها وعظمتها وبهائها وسنائها.

هذا هو الحق الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده، بعيداً عن بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وإفك الأفاكين.

والله أعلم وأحكم.

ما هو الزمن؟ وهل يجري على الله زمان؟

التعريف العام للزمن، هو المدّة الواقعة بين حدثين.
والتعريف الخاص للزمن، هو ساعات الليل والنهار. أو المدّة التي تستغرقها الشمس لعمل دورة كاملة حول الأرض. أو المدة التي يستغرقها القمر لعمل دورة كاملة حول الأرض. أو المدة التي تستغرقها النجوم لعمل دورة كاملة حول الأرض. كل هذه تعاريف خاصة للزمن، كل تعريف يراد به ما يخصّه من المُدّة.
والزمن أصالة ليس بشيء، فلا يقال عنه مخلوق أو غير مخلوق، لأن الزمن هو عمل الآلات التي من خلالها يتم تحديد الزمن، فلا وجود للزمن في غياب هذه الآلات، والآلات مخلوقة، لذلك إذا قلنا بأن الزمن مخلوق، فإنما نريد بذلك، أن الآلات التي يتم من خلالها تحديد الزمن مخلوقة.
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ یَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج].
أي أن مقدار اليوم الواحد عند الله تعالى، يعادل ألف سنة من أيّامنا على الأرض.
وهذا فيه دلالة قطعيّة على أن الله تعالى يجري عليه الزمان، وليس الله تعالى في حاجة إلى الزمن أو مفتقر إليه، تعالى ربنا وتقدس، ولكنه كما أنه خلق الأمكنة واصطفى له منها مكاناً، فقد خلق الأزمنة وحدّ له منها زماناً، فهو يفعل ما يشاء، لأنه على كل شيء قدير.
وهذا اليوم الذي مقداره ألف سنة، هو الذي عناه ربنا تبارك وتعالى في قوله ﴿یُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ یَعْرُجُ إِلَیْهِ فِی یَوْم كَانَ مِقْدَارُهُۥۤ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة] فالملائكة تهبط إلى الأرض، وتعرج إلى الله تعالى في مكانه بخبر أهل الأرض، وليستأمروه، في يومه، الذي مدّته ألف سنة من أيّامنا.
فإذا ألغى الله سبحانه وتعالى الآلات التي من خلالها يتم تحديد الأزمان، صار الله تعالى وخلقه جميعاً في لا زمان. 
والله أعلم وأحكم.

بيان أن الله تعالى واحد في ذاته وإن تعددت صفاته

قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص]

فدلّت هذه الآية، على أنه مع تعدد صفات الله تعالى، إلا أنه شيء واحد في ذاته، فمع أن صفاته أجزاء وأبعاض في أسمائها وهيئاتها، إلا أنها شيء واحد، لأنه أحد في كل شيء، أحد في ذاته، أحد في كمال صفاته، أحد في ملكه، أحد في خلقه، أحد في أمره ونهيه، أحد في ربوبيته، أحد في ألوهيته، أحدُ في قوّته وقدرته.

والله أعلم وأحكم.


بيان معنى الحلول

الحلول في اللُغة، جمع حَلَّ، وهي تأتي على معنيين:

الأول: بمعنى نزل وهبط، كما تقول العرب: حلّ القوم بالدار، أي: نزلوا الدار وهبطوها وسكنوا بها.

والثاني: بمعنى ذاب وامتزج، كما تقول العرب: حلّ السكّر في الماء. أي: ذاب وامتزج.

فالله تعالى يحُل على العرش، ويحلّ على أي بقعة شاء من سماواته، ويحلّ على أي بقعة شاء من أرضه، ويحلّ حيث يشاء، بمعنى ينزل ويهبط، حتى يستقر على ما شاء من خلقه. وهذا ثابت شرعاً وغير ممتنعٍ عقلاً، لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، فهو على كل شيء قدير، وليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه، بل هو من صفات الكمال والجلال، أن يحلّ الله تعالى أي: ينزل ويهبط في أي موضع شاء.

ولكن الله تعالى وتقدس، لا يحلّ في الأشياء بمعنى أنه تعالى وتقدس يذوب فيها ويمتزج بها كما يذوب ويمتزج السكر بالماء، ولو أراد سبحانه وتعالى ذلك لفعله، لكمال قوته وقدرته، ولكن الله تنزّه عن ذلك، لأنه لا يليق به، فشأن الله تعالى أعظم من أن يحلّ في شيء من مخلوقاته، فإن كثيراً من مخلوقات الله تعالى تحتوي على أنواع من النجاسات الحسيّة، فكيف يحل الله فيها وحالتها كذلك، فهذا ممتنع عقلاً، يتعارض مع جلال الله وعظمته وكبرياءه، لذلك بان منهم وانفصل عنهم إلى أشرف الجهات، وهي جهة العلو.

والأدلة الشرعية جاءت بنفي هذا الحلول عن الله تعالى، بإثبات علو الله تعالى على عرشه، فوق ماءه وسماواته، وبينونته عن خلقه، وانفصاله عنهم، فمن خالف ما ورد في كتابه الله تعالى، فهو مكذّب بالقرآن الكريم، والمكذب بشيء من القرآن الكريم، بعد العِلم والبيان، خارج من دائرة الإسلام، مع أن هذه المسألة لا تطرأ على أحد، ولا يقول بها من له عقل صحيح وفطرة سليمة، إذ أن العقول الصحيحة والفِطَر السليمة، قد جُبِلت على أن الله تعالى بائن من خلقه منفصل عنهم.


ما ورد في أن من قدرة الله تعالى أن يوجد في أماكن عِدّة في وقت واحد

عن ‌عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه، ثم أقبل على الناس فقال: "إذا كان أحدكم يصلي، فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى".

رواه البخاري ومسلم.

قوله: "قِبَل وجهه إذا صلّى". أي: مقابل لوجه المصلِّي، هذا هو معناها في لغة العرب، ليس لها معنى سوى ذلك. 

ويدل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك: "فلا يبصق قبل وجهه". أي: أمامه، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله قبل وجه المصلّي" أي: أمام المصلّي.

وأما من زعم أن معنى ذلك، هو أن الله تعالى، فوق العبد إذا صلّى، فهذا تأويل باطل، ترده لغة العرب، وترده النصوص الشرعيّة.

وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد. فأقبل على الناس فقال: "ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه؟ أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا" .. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد ثوبه بعضه على بعض.

رواه مسلم.

وقوله: "أيحب أحدكم أن يستقبل فينتخع في وجهه". تشبيه للفعل بالفعل، ففيه دليل على أن من يبصق قبل القبلة وهو يصلّي، فإنما يبصق على الله تعالى، كما ينتخع الرجل في وجه الرجل وهو مستقبله، وإن لم يصل شيء من بصاقه إلى الله تعالى، لأن الله تعالى بقدرته يمنع أن يصل شيء من اذى الناس الفعلي له سبحانه، وهذا دليل أخر، على أن الله تعالى، ينزل حتى يكون بين المصلّي وبين قبلته بذاته المقدّسة، ويكون مستقبلاً للمصلّي.

وعن ‌أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه، حتى رئي في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو، إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره أو تحت قدميه". ثم أخذ طرف ردائه، فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: "أو يفعل هكذا".

رواه البخاري.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم في الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها".

رواه البخاري.

فقوله: "فإن عن يمينه ملكا". دليل على أن النهي عن بصاق المصلي قبل وجهه، إنما المراد منه، أن الله تعالى أمام المصلي بذاته.

وإنما نهي المصلي عن البصاق عن يمينه، لأن على يمينه ملك يجب أن يُحترم.

وكذلك قوله: " ولكن عن يساره". وقوله: "وليبصق عن يساره". تدل دلالة صريحة على أن الله يكون أمام المصلي وبين المصلي وقبلته بذاته المقدّسة.

وفي ذلك كله، دليل على بطلان من زعم أن معنى قول النبي في الحديث الأول: "فإن الله قِبَل وجهه إذا صلّى". أي: أنه فوقه. لأن العبد إذا التفت يميناً فإن الله سوف يكون قِبَل وجهه، وإذا ألتفت يساراً، سوف يكون الله قِبًل وجهه أيضاً، وعلى هذا، فلا يجوز للمصلّي أن يبصق على يساره أيضاً، كون الله سوف يكون قِبل وجهه أيضاً، فثبت بهذا الحديث، بطلان ذاك التأويل الذي تأولوه.

وعن حذيفة بن اليمان، أظنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه .. " الحديث.

رواه أبو داود.

ومعنى الحديث، أن من تفل تجاه القبلة، فإنما يكون تجاه الله تعالى، فجازاه الله تعالى بأن ردّ عليه تفلته، ووضعها بين عينيه.

ولا يقال بأن النهي عن البصاق تجاه القبلة، تشريفاً للقبلة، التي هي الكعبة، لأن بينه وبينها مسافة بعيدة. 

ولا يقال بأن النهي ورد تشريفاً للجهة، لأنه لو كان كذلك، لنهي عن البصاق تجاه القبلة في الصلاة وفي غير الصلاة.

ولا يقال: بأن النهي ورد لأن العبد يناجي ربّه، دون مقابلة، لأن للعبد أن يبصق في غير الصلاة، وهو يناجي ربه، بدعاء أو قراءة أو نحوه، لأن النهي إنما ورد عن ذلك والعبد يصلّي، وإنما جرت عادة أهل التقى، أنهم لا يبصقون أمامهم وهم يناجون ربهم خارج الصلاة، سواء كانوا يدعون الله تعالى أو يقرأون القرآن، ولكن لم يرد نصّ شرعي بالنهي عن ذلك خارج الصلاة.

فثبت بذلك، أن النهي عن البصاق، ورد لأن العبد عندما يبصق، فإنما يبصق ناحية الله، الذي نزل ليكون بين عبده المصلِّي وبين قِبلته، لتكون صلاة العبد له.

قلت: فهذه أحاديث صحيحة صريحة، في أن الله تعالى يكون بين المُصلّي وقبلته، ليصلّي إليه، سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن الأرض لا تخلو من مصلّي، في كل زمان ومكان، ويصلي الألوف المؤلفة من الناس في زمن واحد، وفي أماكن متباعدة، فيكون الله تبارك وتعالى، أمام كلِّ مُصلٍّ وبين قبلته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني، فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".

رواه البخاري ومسلم.

فهذا حديث صحيح صريح، في أن الله تعالى ينزل بذاته إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخر، ينادي عباده إلى الدعاء والاستغفار. 

ومن المعلوم أن وقت ثلث الليل الأخر، مستمر طول الوقت، لا يرتحل من أرض حتى يحلّ بأخرى.

فإذا كان الله تعالى بين كلِّ مصلٍّ وبين قبلته، وفي نفس الوقت نازل إلى السماء الدنيا عند من عندهم الوقت ثلث الليل الأخر، وهذا يعني استمرار نزوله إلى السماء الدنيا على مدار الوقت، ولكن يختلف الموضع الذي ينزل إليه من السماء الدنيا، بحسب اختلاف الزمن على الأرض، وفي نفس الوقت عال فوق سماوات، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، عند باقي مخلوقاته، ممن لا يصلّي وليس عندهم الوقت ثلث الليل الأخر، فإنه لا يمكن تأويل هذا إلا أن يقال: بأن الله تعالى يتواجد في أماكن عدّة في وقت واحد، بكيفيّة لا يعلمها إلّا هو سبحانه

ولعل هذا ما يفسّر لنا كيف أن الله تعالى في جهة العلو، مع أن هناك من يقول بأن الأرض كرويّة، فالجواب على ذلك: أنه لو صحّ أن الأرض كروية الشكل، فإن جهة العلو تكون جهة نسبيّة، فجهة العلوّ بالنسبة للكرة، هو كل ما كان فوق سطحها من أي جهة كانت، وأما أسفلها فهو في مركز باطنها، فلو انطلق أي شخص من أي ناحية من نواحي الأرض، إلى جهة العلوّ من قِبَله، واخترق السماوات السبع، لوصل إلى الله تعالى، وهو مستو على عرشه في وسط داره، تحفّ به ملائكته المسبحة بقدسه، فإن القادر على أن يجعل ذاته في أماكن عدة في وقت واحد، قادر على أن يجعل عرشه وداره في أماكن عدة وفي وقت واحد، لأن الله تعالى لا يعجزه شيء.

والله أعلم وأحكم.


ما ورد في أن الله تعالى جالس وقاعد على عرشه وأن العرش مكانه

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لمّا خلق الله الخلق، كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي".
رواه البخاري ومسلم.
قلت: وهذا يصدّق الحديث، الذي رواه البخاري في تاريخه، عن جُبير بن مطعم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته".
قال: عبدالله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه قال: "إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".
رواه عبدالله في كتاب السنّة.
وقال عبدالله بن حنبل حدثني أبي، نا وكيع، بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه قال: "إذا جلس الرب تعالى على الكرسي"، فاقشعر رجل، سماه أبي، عند وكيع، فغضب وكيع وقال أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها.
رواه عبدالله في كتاب السنة.
وعن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: ﴿ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ﴾ [طه] فقال جالس. اهــ
رواه الحكم بن معبد في كتابه الرؤية، ونقله عنه الإمام الدشتي في كتابه إثبات الحد لله تعالى.
وإسناده صحيح، إلا أن الشعبي لم يسمع من عبدالله بن مسعود، ولكنه سمع كبار أصحابه، والشعبي ثقة ثبت.
وعن عباد بن منصور، قال: سألت الحسن وعكرمة، عن قوله ﴿ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ﴾ [طه] قالا جلس. اهـ
رواه الحكم بن معبد في كتابه الرؤية، ونقله عنه الإمام الدشتي في كتابه إثبات الحد لله تعالى.
وإسناده حسن.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: "الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل".
أخرجه الطبري في تفسيره بسند صحيح.
وفي هذا الباب أحاديث كثيرة، ولكني اقتصرت على ما صحّ منها فقط.
والله تعالى استوى على عرشه جالسا وقاعدا من كمال غناه عن المكان وعن العرش وعن الجلوس والقعود عليه، فهو سبحانه وتعالى الغنيّ، إنما الله تعالى يفعل ما يشاء، لأنه على كل شيء قدير، فكما أنه خلق سائر المخلوقات مع كمال غناه عنها، فقد خلق العرش واصطفاه ليكون مكانا له، يجلس ويقعد عليه، مع كمال غناه عنه.
وقدرته على اتخاذ المكان، والجلوس والقعود، من دلائل كمال قدرته سبحانه وتعالى.
وقد يقول قائل: هل العرش يحوي الله تعالى وتقدس؟
والجواب: الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، لأنه على كل شيء قدير، فقد يجمع ربنا تعالى ذاته على العرش، فيستوي عليه كلّه، والله تبارك وتعالى أعلم بما يليق به وما لا يليق به، فإن كان هذا هو الحال، فهو مما يليق بالله تعالى فعله، وقد لا يدنو من العرش منه سوى بعضه، فيستوي بعضه على العرش، ويكون بعضه متّصلا بالذات الكُلِّيَّة العِليّة. 
والله أعلم وأحكم

تأويل قوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ﴾ [طه ٥]

استوى في لغة العرب ليس لها سوى معناً واحد لا ثالث له، وهو اعتدل. فاستوى واعتدل معنيان مترادفان.
قال الله تعالى: ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا سَاوَىٰ بَیْنَ ٱلصَّدَفَیْنِ﴾ [الكهف] أي جعل ما بينهما معتدلاً، بعد أن غطّاه بالحديد.
وقال تعالى: ﴿قُلْ یَـٰۤأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاۤءِ بَیْنَنَا وَبَیْنَكُمْ﴾ [آل عمران] أَي عَدْلٍ.
لكن مدلول هذه الكلمة يتغير بتغير العوامل الداخلة عليها.
فإذا أضيفت إلى حرف "على" كان معناها الاعتدال في العلو والارتفاع.
وإذا أضيف هذا العلو إلى شيء، كان معناه الاعتدال في العلو والارتفاع على ذلك الشيء، وهذا لا يكون إلا بالاستقرار على الشيء الذي تمّ الاستواء عليه.
وقد يلزم من هذا الاعتدال الجلوس والقعود.
كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ﴾ [الأعراف]
وقوله تعالى: ﴿لِتَسْتَوُۥا۟ عَلَىٰ ظُهُورِهِ﴾ [الزخرف]
وقول عبدالله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً.
رواه النسائي.
وقد أورد النسائي هذا الحديث، للاحتجاج به على أن معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ﴾ أي جلس وقعد.
وقد لا يلزم منه الجلوس والقعود.
كقوله تعالى: ﴿وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِیِّ﴾ [هود]
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا ٱسْتَوَیْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ﴾ [المؤمنون]
وقوله تعالى: ﴿ذُو مِرَّة فَٱسْتَوَىٰ﴾ [النجم]
أي اعتدل في علوه وارتفاع بالأفق الأعلى، قبل أن يدنو من النبي ويتدلى إليه، والمراد به هنا جبريل عليه السلام.
فالآيتين الأوليين تثبت الاعتدال في العلو والارتفاع والصعود والاستقرار، لأنه مضاف إلى شيء استوى عليه، وأما في الآية الثالثة، فلم يضف إلى شيء يستوي عليه، فكان معناه، الاعتدال في العلو والارتفاع، من غير استقرار.
وأما إذا أضيفت كلمة "استوى" إلى حرف "إلى" كان معناه الاعتدال في التوجه والقصد.
كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ثُمَّ ٱسْتَوَىٰۤ إِلَى ٱلسَّمَاۤءِ﴾ [البقرة]
وإذا أضيفت إلى حرف "في" كان معناه الاعتدال في التوسط على الشيء. كما ورد في الحديث "كان في عماء".
رواه الترمذي.
فإذا جردت من هذه الإضافات، رجعت إلى معناها الخالص وهو الاعتدال.
كقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰۤ﴾ [القصص] أي اعتدل في سنّه.
وقوله تعالى: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ﴾ [الفتح] أي اعتدل على سوقه.
وقال عبدالله بن عمر "أن النبي كانت إذا استوت به راحلته قائمة" .. الحديث. 
رواه البخاري.
أي اعتدلت في وقوفها.
واستوى الطعام، أي اعتدل في نضجه، فليس نيئاً ولا محترقاً.
واستوى الوجه، أي اعتدل الطريق إلى الوجهة.
واستوى القمر، أي اعتدل في اكتماله. 
واستوى زيد وعمر، أي تعادلا.
كل هذا معناه يرجع إلى الاعتدال.
فبعض الصحابة أو التابعين أو غيرهم من أئمة السنة وأهل اللغة، قد يختصرون المعنى.
فيسألهم السائل عن معنى قوله تعالى: ﴿ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ﴾ فيقولون علا. أو يقولون ارتفع. أو يقولون صعد. أو يقولون استقر. أو يقولون جلس. أو يقولون قعد. 
وإنما هذا اختصار لمعنى الآية وليس مرادهم أن هذا معنى كلمة "استوى".
وهكذا في باقي معاني استوى، إنما هو اختصار منهم للمعنى.
فكما قلنا استوى معناها "اعتدل".
وأما تأويل استوى باستولى أو بغلب وقهر، فهذا من وضع الوضّاعين، ولا تعرفه العرب في معنى كلمة استوى، لا عند العرب الفصحاء القدماء، ولا عند العرب المتأخرين.
فتبين لنا أن معنى قوله تعالى: ﴿ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ﴾ أي اعتدل في علوه وارتفاعه وصعوده واستقراره جالساً وقاعداً على العرش.

صفة العلو لله تعالى

والعلوّ صفة فعلية لله تعالى. 

قال تعالى: ﴿ذَ لِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا یَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِیُّ ٱلْكَبِیرُ﴾ [لقمان]

والعلوّ، قد يراد به علو الذات، وقد يراد به علو السلطان والغلبة والقهر، وهي في هذه الآية، تشمل جميع تلك المعاني.

وقال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلْحَكِیمُ ٱلْخَبِیرُ﴾ [الأنعام]

وقال تعالى: ﴿یَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَیَفْعَلُونَ مَا یُؤْمَرُونَ﴾ [النحل]

والفوقيّة، قد يراد بها فوقيّة الذات، وقد يراد بها فوقية السلطان والغلبة والقهر، وهي في هذه الآيات تشمل جميع تلك المعاني.

وقال تعالى: ﴿مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِیعًاۚ إِلَیْهِ یَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرْفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِینَ یَمْكُرُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيْدٌ وَمَكْرُ أُولَـٰۤىِٕكَ هُوَ یَبُورُ﴾ [فاطر]

وقال تعالى: ﴿یُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ إِلَى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ یَعْرُجُ إِلَیْهِ فِی یَوْم كَانَ مِقْدَارُهُۥ أَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة]

وقال تعالى: ﴿تَعْرُجُ ٱلْمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَیْهِ فِی یَوْم كَانَ مِقْدَارُهُۥ خَمْسِینَ أَلْفَ سَنَة﴾ [المعارج]

والصعود والمعراج، لا يكون إلّا لمن كان عالياً بذاته.

وقال تعالى: ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِی ٱلسَّمَاۤءِ أَن یَخْسِفَ بِكُمُ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا هِیَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِی ٱلسَّمَاۤءِ أَن یُرْسِلَ عَلَیْكُمْ حَاصِبا فَسَتَعْلَمُونَ كَیْفَ نَذِیرِ﴾ [الملك]

والضمير في قوله ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِی ٱلسَّمَاۤءِ﴾ راجع إلى الله تعالى، فهو سبحانه الآمر الناهي.

قال تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ ٱلَّذِینَ مَكَرُوا ٱلسَّیِّـَٔاتِ أَن یَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلْأَرْضَ أَوْ یَأْتِیَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَیْثُ لَا یَشْعُرُونَ﴾ [النحل]

فبيّن سبحانه وتعالى، أنه هو من يخسف بعباده إذا شاء.

وقال تعالى: ﴿إِذْ قال: ٱللَّهُ یَـٰعِیسَىٰۤ إِنِّی مُتَوَفِّیكَ وَرَافِعُكَ إِلَیَّ﴾ [آل عمران]

وقوله ﴿وَرَافِعُكَ إِلَیَّ﴾ أي مدنيك منّي ومقربك إلي، فرفعه الله تعالى إلى السماء الثانية، كما ورد في حديث المعراج.

وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ عِندَ رَبِّكَ لَا یَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَیُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ یَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف]

وفي هذه الآية، تصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض.

ويصدّق ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لمّا خلق الله الخلق، كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي".

رواه البخاري ومسلم.

فقوله "فهو عنده فوق العرش" أي عند الله تعالى فوق عرشه.

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، في حديث مناسك الحج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات".

رواه مسلم.

وفي هذا الحديث، دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار إلى الله تعالى إشارة حسيّة، أي أن الله تعالى في جهة العلو بذاته.

وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، قال: "وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَظَّم ذلك علي، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: "ائتني بها" فأتيته بها، فقال لها "أين الله؟" قالت: في السماء، قال: "من أنا؟" قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة".

وهذا حديث صحيح، رواه الأئمة الفحول، مالك في الموطأ، والشافعي في الرسالة، وأحمد في المسند، ومسلم في صحيحه.

إلّا أن مالكاً أخطأ في اسم معاوية، فأسماه عمر، وبيّن الأئمة خطأ الإمام مالك في ذلك.

وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلّم للجارية لمّا أقرّت بأن ربّها في السماء، أي: في جهة العلو، بالإيمان.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تأمنوني وأنا أمين مَنْ في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء".

رواه البخاري ومسلم.

وقوله "وأنا أمين من في السماء" أي أمين الله تعالى، الذي أأتمنه على أداء ما بعثه به من الحق.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يُعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقول فلان، فيقال مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى" .. الحديث.

رواه ابن ماجه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها".

رواه مسلم.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنها قال في خبر زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين زينب بنت جحش: "فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات".

رواه البخاري.

وعن حسان بن ثابت رضي الله عنه، أنه أنشد النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً:

شـــهـــدت  بإذن  الله  أن  مـــحــــمــــداً    رسول الذي فوق السماوات من علِ

رواه ابن أبي شيبة في مصنفة، وهو موجود في ديوانه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لسعد بن معاذ رضي الله عنه، عندما حكم في اليهود: "حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات".

رواه النسائي في الكبرى.

وفي حديث المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأوحى الله إليّ ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة; فنزلت إلى موسى فقال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. فرجعت إلى ربي فقلت يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا" .. الحديث.

رواه البخاري ومسلم.

وفي حديث الملائكة السياحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا تفرقوا عرجوا أو صعدوا إلى السماء فيسألهم الله تعالى وهو أعلم من أين جئتم؟" .. الحديث.

رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا طيب، فإنها يتقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل".

رواه البخاري.

كل هذا الأحاديث، فيها التصريح، بأن الله تعالى عالٍ بذاته، فوق سماواته، وأنه يُنْزل من عنده، ويُصْعد إليه.

ولكمال قدرته سبحانه وتعالى، فهو قادر على أن يحلّ ويتحد في مخلوقاته، ولكنه تنزّه عن ذلك، لأن ذلك لا يليق بجلاله وعظمته وكبريائه، لذلك بان من خلقه، وانفصل عنهم، إلى أشرف الجهات، وهي جهة العلو.

والله أعلم وأحكم.